فصل: ما وقع من أحداث سنة خمس وأربعين وسبعمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء (نسخة منقحة)



.ما وقع من أحداث سنة أربع وأربعين وسبعمائة:

ثم دخلت سنة أربع وأربعين وسبعمائة:
فيها أغارت التركمان مرات على بلاد سيس، فقتلوا ونهبوا وأسروا وشفوا الغليل، بما فتكت الأرمن ببلاد قرمان.
وفيها في صفر، توفي الأمير علاء الدين الطنبغا المارداني نائب حلب رد خارج باب المقام، وله بمصر جامع عظيم، وكان شاباً حسناً عاقلاً ذا سكينة.
وفيها مزقنا كتاب فصوص الحكم، بالمدرسة العصرونية بحلب، غقيب الدرس، وغسلناه، وهو من تصانيف ابن عربي تنبيهاً على تحريم قنيته ومطالعته وقلت فيه:
هذي فصوص لم تكن ** بنفيسة في نفسها

أنا قد قرأت نقوشها ** فصوابها في عكسها

وفيها توفي بحلب، الأمير سيف الدين بهادر، المعروف بحلاوة، أحد الأمراء بها، وله أثر عظيم في القبض على تنكز، وكان عنده ظلم، وتوعد أهل حلب بشر كبير، فأراحهم الله منه. قلت:
حلاوة مر فما ** أملحه أن يدمنا

إلى البلى مسيرا ** وفي الثرى مكفنا

فيها في صفر، بلغنا أنه توفي الشيخ شهاب الدين أحمد بن المرحل النحوي، الحراني الأصل، المصري الدار، والوفاة، كان متضلعاً من العربية، وعنده تواضع وديانة، نقلت له مرة وهو بحلب، أن أبا العباس ثعلباً أجاز الضم في المنادى صاف والشبيه به، الصالحين للألف واللام، فاستغرب ذلك وأنكره جداً، ثم طالع كتبه فرآه كما نقلت؛ فاستحيى من إنكار ذلك، مع دعواه كثرة الاطلاع. فقلت:
من بعد يومك هذا ** لا تنقل النقل تغلب

لو أنك ابن خروف ** ما كنت عندي كثعلب

وفيها في ربيع الأول، وصل يلبغا التجباوي إلى حلب نائباً، وهو شاب حسن، كان الملك الناصر يميل إليه، وأعطاه مرة أربعمائة ألف درهم، ومرة مائة فرس مسومة، وغالب مال تنكز، وتولى نيابة حماة مكانه سيف الدين طقزتمر الأحمدي، وعنده عقل وعدل، وعند يلبغا عفاف عن مال الرعية، وسطوة وحسن أخلاق في الخلوة.
وفيه سافر قاضي القضاة بحلب، بدر الدين إبراهيم بن الخشاب إلى مصر، ذاهباً بنفسه عن مساواة القرع، وذلك حين بلغه تطلب القرع بحلب، ولابن الخشاب يد طولى في الأحكام وفن القضاء، متوسط الفقه.
وفيه توفي سليمان بن مهنا أمير العرب، وفرح أهل إقطاعه بوفاته.
والقاضي شرف الدين أبو بكر بن محمد بن الشهاب محمود الحلبي، كاتب السر وكيل بيت المال بدمشق، توفي بالقدس الشريف، كتب السر بالقاهرة للملك الناصر محمد، أولاً.
وفيه وصل عسكران من حماة وطرابلس، للدخول إلى بلاد سيس. لتمرد صاحبها كند اصطنيل الفرنجي، ولمنعه الحمل، ومقدم عسكر طرابلس، الأمير صلاح الدين يوسف الدواتدار، أنشدني بحلب في سفرته هذين البيتين للإمام الشافعي، قيل إنهما ينفعان لحفظ البصر:
يا ناظري بيعقوب أعيذ كما ** بما استعاذ به إذ خانه البصر

قميص يوسف ألقاه على بصري ** بشير يوسف فاذهب أيها الضرر

فأنشدت بيتين لي، ينفعان إن شاء الله تعالى، لحفظ النفس والدين والأهل والمال، وهما:
أمررت كفا سبحت فيها الحصى ** وروت الركب بماء طاهر

على معاشي ومعادي وعلى ** ذريتي وباطني وظاهري

وفيها في جمادى الأولى، عاد العسكر المجهز إلى بلد سيس، وما ظفروا بطائل، وكانوا قد أشرفوا على أخذ أذنة، وفيها خلق عظيم وأموال عظيمة، وجفال من الأرمن، فتبرطل أقسنقر مقدم عسكر حلب من الأرمن، وثبط الجيش عن فتحها، واحتج بأن السلطان ما رسم بأخذها، وتوفي أقسنقر المذكور بعد مدة يسيرة بحلب مذموماً، وأبى الله أن يتوفاه ببلاد سيس، مغازياً.
وفيها نقلت جثة تنكز من ديار مصر إلى تربته بدمشق، وتلقاها الناس ليلاً بالشمع والمصاحف والبكاء، ورقوا له، ووقع بدمشق عقيب ذلك مطراً، فعدوا ذلك من بركة القدوم بجثته.
وفيها في جمادى الأولى، توفي بدمشق، الإمام العلامة شمس الدين محمد بن عبد الهادي، كان بحراً زاخراً في العلم.
وفيه قتل الزنديق إبراهيم بن يوسف المقساتي بدمشق، لسبه الصحابة، وقذفه عائشة رضي الله عنهم، ووقوعه في حق جبريل عليه السلام. وفيها في العشرين من شهر وجب، توفي بجبرين الشيخ محمد ابن الشيخ نبهان، كان له القبول التام عند الخاص والعام، وناهيك أن طشتمر حمص أخضر، على قوة نفسه وشمعه، وقف على زاويته بجبرين، وحصة من قرية حريثان، لها مغل جيد، وبالجملة فكأنما ماتت بموته مكارم الأخلاق، وكاد الشام يخلو من المشهورين على الإطلاق: قلت:
وكنت إذا قابلت جبرين زائراً ** يكون لقلبي بالمقابلة الجبر

كأن بني نبهان يوم وفاته ** نجوم سماء خر من بينها البدر

زرته قبل وفاته، رحمه الله، فحكى لي قال: حضرت عند الشيخ عبس السرجاوي وأنا شاب وهو لا يعرفني، فحين رآني دمعت عينه وقال: مرحباً بشعار نبهان وأنشد:
وما أنت إلا من سليمى لأنني ** أرى شبهاً منها عليك يلوح

وحكى لي مرة أخرى قال أحضرت بالفوعة غسل الشيخ إبراهيم ابن الشيخ لما مات، وقرأنا عنده سورة البقرة وهو يغسل، فلما وصلنا إلى قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} رفعنا أيدينا للدعاء، فرفع الشيخ إبراهيم يديه معنا للدعاء وهو ميت على المغتسل، ومحاسن الشيخ محمد، وتلقيه للناس، وتواضعه به ومكاشفاته، كثيرة ومشهورة، رحمه الله ورحمنا به آمين.
وفيها في منتصف شعبان، وقعت الزلزلة العظيمة، وخربت بحلب وبلادها أماكن، ولا سيما منبج، فإنها أقلت ساكنها، وأزالت محاسنها، وكذلك قلعة الرواندان، وعملت أنا في ذلك رسالة، أولها نعوذ بالله من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها، ونستعينه في طيب الإقامة بها، وحسن الرحلة عنها، نعم نستعيذ بالله ونستعين من سم هذه السنة، فهي أم أربعة وأربعين، وختمتها بقولي:
منبج أهلها حكوا دود قز ** عندهم تجعل البيوت قبورا

رب نعمهم فقد ألفوا من ** شجر التوت جنة وحريرا

والله أعلم، وصارت الزلازل تعاود حلب وغيرها سنة وبعض أخرى، وفي الحديث أن كثرة الزلازل من أشراط الساعة.
وفيها توفي طرغاي نائب طرابلس. وفيها بلغنا أن أرتنا صاحب الروم، سليمان خان، ملك التتر، قصده بالتتر إلى الروم، فانكسر كسرة شنيعة، ثم إن الشيخ حسن بن تمرتاش بن جوبان قتل، وهذا من سعادة الإسلام، فان المذكور كان فاسد النية، لكون الملك الناصر محمد قتل أباه وأخذ ماله كما تقدم.
وفيها قطع فياض بن مهنا بن عيسى، فقطع ونهب.
وفيها في شهر رمضان، وصل إلى حلب قاضي القضاة نور الدين محمد بن الصائغ، على قضاء الشافعية، وهو قاض عفيف حسن السيرة عابد.
وفيها في شوال، حاصر يلبغا النائب بحلب، زين الدين قراخا بن دلغادر التركماني، بجبل الدلدل، وهو عسر إلى جانب جيحان، فاعتصم منه بالجبل، وقتل في العسكر، وأسر وجرح، وما نالوا منه طائلاً، فكبر قدره بذلك، واشتهر اسمه، وعظم على الناس شره، وكانت هذه حركة رديئة من يلبغا.
وفيها توفي كمال الدين عمر بن شهاب الدين محمد بن العجمي الحلبي، كان قد تفنن وعرف أصولاً وفقهاً، وبحث على شرح الشافية الكافية في النحو مرة، وبعض أخرى، ودفن ببستانه، رحمه الله، وما خرج من بني العجمي مثله.

.ما وقع من أحداث سنة خمس وأربعين وسبعمائة:

ثم دخلت سنة خمس وأربعين وسبعمائة:
فيها في صفر، حوصرت الكرك، ونقبت، وأخذ الملك الناصر أحمد، وحمل إلى أخيه الملك الصالح بمصر، فكان آخر العهد به.
وفيها وصل إلى ابن دلغارد أمان من السلطان، وأفرج عن حريمه، وكن بحلب، واستقر في الأبلستين.
وفيها في ربيع الآخر، بلغنا وفاة الشيخ أثير الدين، أبي حيان النحوي المغربي بالقاهرة، كان بحراً زاخراً في النحو، وهو فيه ظاهري، وكان يستهزئ بالفضلاء من أهل القاهرة، ويحتملونه لحقوق اشتغالهم عليه، وكان يقول عن نفسه: أنا أبو حيات- بالتاء- يعني بذلك تلاميذه، وله مصنفات جليلة منها: تفسير القرآن العظيم، وشرح التسهيل، وارتشاف الضرب من ألسنة العرب مجلد كبير جامع، ومختصرات في النحو، وله نظم ليس على قدر فضيلته، فمن أحسنه قوله:
وقابلني في الدرس أبيض ناعم ** وأسمر لدن أورثا جسمي الردى

فذا هز من عطفيه رمحاً مثففاً ** وذال سل من جفنيه عضباً مهندا

وفيها في جمادى الأولى، توفي بحلب، الحاج محمد بن سلمان الحلبي المعزم، كان عنده ديانة وإيثار، وله مع المصروعين وقائع وعجائب.
وفيه توفي بطرابلس الأمير الفاضل صلاح الدين يوسف بن الأسعد الدواتدار، أحد الأمراء بطرابلس، وهو واقف المدرسة الصلاحية بحلب كما تقدم، وكان من أكمل الأمراء، ذكياً فطناً معظماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حسن الخط، وله نظم، كان كاتباً، ثم صار دواتدار قبجق بحماة، ثم شاد الدواوين بحلب، ثم حاجباً بها، ثم دواتدار الملك الناصر، ثم نائباً بالإسكندرية، ثم أميراً بحلب، وشاد المال والوقف، ثم أميراً بطرابلس رحمه الله تعالى.
وفيها في شعبان، بلغنا وفاة الشيخ نجم الدين القحفيزي بدمشق، فاضل في العربية والأصلين، ظريف حسن الأخلاق، ومن ذلك أنه أنشد مرة قول الشاعر: أيا نخلتي سلمى إلخ. فقال له بعض التلامذة: يا سيدي وما تيس الماء؟ فقال الشيخ: إن شئت أن تنظره فانظر في الخابية تره.
وفيها توفي بدمشق قاضي القضاة جلال الدين الحنفي الأطروش.
وفيها توفي الأمير علاء الدين أيدغدي الزراق، أتابك عسكر حلب، مسناً، وله سماع، وحكى لي أنه حر الأصل من أولاد المسلمين، وهو فاتح قلعة خندروس كما تقدم.
وتوفي كندغدي، العمري نائب البيرة مسناً، عزل عنها قبل موته بأيام، وعزموا على الكشف عليه، فستره الله بالوفاة، ببركة.محبتة للعلماء والفقراء.
وسيف الدين بلبان جركس، نائب قلعة المسلمين، طال مقامه بها وخلف مالاً كثيراً لبيت المال.
وفيها في شهر رمضان، اتفق سيل عظيم بطرابلس، وهلك فيه خلق منهم ابنا القاضي تاج الدين محمد بن البارنباري، كاتب سرها، وكان أحد الابنين الغريقين ناظر الجيش بها، والآخر موقع الدست، ورق الناس لأبيهما، فقلت وفيه تضمين واهتدام:
وارحمتاه له فإن مصابه ** بابن يبرحه فكيف ابنان

ما أنصفته الحادثات رمينه ** بمودعين وما له قلبان

وزاد نهر حماة وغرق دوراً كثيرة، ولطم العاصي خرطلة شيزر فأخذها، وتلفت بساتين البلد لذلك، ويحتاج إعادتها إلى كلفة كبيرة.
وفيها في ذي القعدة، توفي بدمشق القاضي شمس الدين محمد بن النقيب الشافعي، وتولى تدريس الشامية مكانه، تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي، ثم تولاها السبكي بنفسه، خوفاً عليها، كان ابن النقيب بقية الناس، ومن أهل الإيثار، وأقام حرمة المنصب لما كان قاضي حلب فقيهاً كبيراً محدثاً أصولياً متواضعاً مع الضعفاء، شديداً على النواب. قال رحمه الله: دخلت وأنا صبي أشتغل على الشيخ محي الدين النووي، فقال لي: أهلاً بقاضي القضاة، فنظرت فلم أجد عنده أحداً غيري، فقال: اجلس يا مدرس الشامية وهذا من جملة كشف الشيخ محي الدين.
وابن النقيب حكى هذا بحلب قبل توليته الشامية. وحكى لي يوماً، وإن كنت قد وقفت عليه في مواضع من الكتب، أنه رفع إلى أبي يوسف، صاحب أبي حنيفة، رضي الله عنهما، مسلم قتل كافراً، فحكم عليه بالقود، فأتاه رجل برقعة ألقاها إليه. فيها:
يا قاتل المسلم بالكافر ** جرت وما العادل كالجائر

يا من ببغداد وأعمالها ** من علماء الناس أو شاعر

استرجعوا وابكوا على دينكم ** واصطبروا فالأجر للصابر

فبلغ الرشيد ذلك، فقال لأبي يوسف: تدارك هذا الأمر بحيلة لئلا تكون فتنة. فطالب أبو يوسف أصحاب الدم ببينة على صحة الذمة وثبوتها، فلم يأتوا بها، فأسقط القود.
وحكى لنا يوماً في بعض دروسه بحلب، أن مسألة ألقيت على المدرسين والفقهاء بدمشق، فما حلها إلا عامل المدرسة، وهي: رجل صلى الخمس بخمسة وضوءات، وبعد ذلك علم أنه ترك مسح الرأس في أحد الوضوءات، فتوضأ خمس وضوءات، وصلى الخمس، ثم تيقن أيضاً أنه ترك مسح الرأس في أحد الوضوءات الجواب: يتوضأ ويصلي العشاء، فيخرج عن العهدة بيقين، لأن الصلاة المتروكة المسح أولاً، إن كانت العشاء، فقد صحت الصلوات الأربع قبلها، وهذه العشاء المأمور بفعلها خاتمة الخمس، وإن كانت غير العشاء، فالعشاء الأولى والصلوات الخمس المعادة، والعشاء الثالثة صحيحة، غايته ترك مسح في تجديد وضوء ولهذا يجب أن يشترط عدم الحدث إلى أن يصلي الخمس. ثانياً قلت: التحقيق أن الوضوء ثانياً كان يغنيه عنه مسح الرأس وغسل الرجلين، لأن الشرط أنه لم يحدث إلى أن يصلي الخمس ثانياً، وكذلك كان ينبغي للمجيب أن يقول له: إن كنت لم تحدث إلى الآن، فامسح رأسك واغسل رجليك وصل العشاء، إذ الجديد عدم وجوب التتابع، وإن كنت محدثاً الآن، فلا بد من الوضوء كما قال.
وفيها استرجع السلطان الملك الصالح ما باعه الملك المؤيد وابنه الأفضل بحماه والمعرة وبلادهما، من أملاك بيت المال، وهو بأموال عظيمة، وكان غالب الملك، قد طرح على الناس غصباً، وقد اشتريت به تقادم إلى الملك الناصر، فقال بعض المعربين في ذلك:
طرحوا علينا الملك طرح مصادر ** ثم استردوه بلا أثمان

وإذا يد السلطان طالت واعتدت ** فيد الإله على يد السلطان

وكأنما كاشف هذا القائل، فإن مدة السلطان لم تطل بعد ذلك.